التشكيل الكويتي

فنون عربية وعالمية

الفن وما حوله

فنون العمارة

كتاب في سطور

ورقة من حياة فنان

متاحف عالمية

حوار ورأي

حرف

قراءات

قاموس التشكيلي

المشهد التشكيلي العربي

تشكيل الحياة

الأخيرة

شروط النشر

 

 

العودة للأولى

 

بقلم: بندر عبدالحميد


شهدت العقود الستة الأخيرة من القرن التاسع عشر ثورات متعددة في الفكر والفن والعلوم والحياة، فعلى المستوى العلمي تطورت الصناعة، وتطورت بذلك جوانب من الصناعة تخص الثقافة والفن، منها آلات الطباعة وآلية التصوير الضوئي الذي ولد منه فن السينما في نهايات ذلك القرن، وفي مجال الأدب انتشرت في أوروبا المؤلفات الواقعية والتجارب الجديدة في الرواية والقصة والشعر، ووصلت إلى القراء البعيدين، عبر حركة الترجمة النشطة أحياناً أعمال دستويفسكي وتولستوي وديكنز واميل زولا وابسن وتشيخوف ووالت وايتمان، وظهرت النظريات العلمية والدراسات الفلسفية وطبعت الكتب الهامة بلغات مختلفة.

ليس للحركة الفنية في النرويج تقاليد قديمة، فحينما استقلت عام 1814 لم تكن ظروفها الاقتصادية والثقافية، تسمح بقيام حركة فنية ذات ملامح خاصة، كما لم تكن عاصمتها أوسلو (كريستيانا سابقا) أكبر من بلدة ريفية صغيرة، أما الفنانون الذين نشأوا فإنهم غالباً ما يسافرون إلى أحد البلدان الأوروبية الأخرى، بحثاً عن الدراسة والعمل، وقد لا يعود بعضهم إلى الوطن الأم، وكان لمدرسة دوسلدورف الرومانسية تأثير واضح في الفن وفي النرويج قبل ان ينتقل مركز الفن في ألمانيا إلى ميونيخ في السبعينيات من القرن التاسع عشر ثم إلى برلين في أوائل القرن العشرين.

كانت بذور الواقعية ومدارس الفن الحديث بتأثيراتها تنمو في تربة خصبة، وفي هذه التربة نمت موهبة الفنان النرويجي ادوار مونش (1863 ـ 1944) الذي ولد في البلدة الريفية لوتن وكان الابن الثاني بين خمسة أبناء للدكتور كريستيان مونش وزوجته لورا كاترين، وكان والده طبيباً متنقلاً في البحرية النرويجية، قبل ان يستقر في العاصمة، ويعمل في الطب والتجارة.

عاش مونش (Edvard Munch)قلقاً متشائماً بتأثير من التربية الدينية في طفولته والمشاعر الرومانسية في شبابه، وانعكست ملامح اليأس على أعماله ومع انه عاش اثنين وثمانين عاماً، وهي فترة تكفي لأعمال ثلاثة فنانين مبدعين من معاصريه مثل ايفون شيلي (1890 ـ 1918)، إلا ان هذه الحياة الطويلة لم تعطه إلا مزيداً من المشاعر السوداء التي يصاحبها احساس بآلام المرض الجسمي والنفسي، ولا سيما ان هذا الفنان عاش في حياته حربين عالميتين في الفترة التي نضجت تجربته في الفن.

وفي الصور الشخصية التي رسمها لنفسه في فترة ستين عاماً، منذ بداية شبابه حتى شيخوخته، لا نجد ما يوحي بطيف ابتسامة أو بريق أمل، فمنذ البداية كان شبح الموت يطارده، ويفسد راحته وحياته اليومية، ومنذ البداية لم يتردد اسم الموت في لوحاته بين فترة وأخرى: (رقصة الموت، صراع الموت، العذراء والموت، غرفة الموت، موت في غرفة المرض، كآبة، يأس، موت مارا، آلام الميتة والطفل، موكب الدفن، الفتى المريض)، وفي عام 1930 رسم نفسه وهو يرقد على طاولة المرض، وبطنه مفتوحة، وإلى جانبه يقف الدكتور شرينر الذي يعالجه، فيما يشبه درساً في التشريح، أما لوحته التي استوحى اسمها من عنوان مسرحية سترينزبرج «رقصة الموت» فإنها ليست أكثر من صورة نصفية تخطيطية للفنان نفسه، وإلى جانبه هيكل عظمي يبدو لأول نظرة كما لو انه صورة الفنان في مرآة كبيرة قريبة.

لم يقف مونش عند مدرسة أو أسلوب محدد، إنما كان يتجدد ويتعلم ويسافر ويستأثر ويؤثر ويغامر باللون والخطوط، ولهذا استطاع ان يكون متفرداً في أسلوبه وموضوعاته.

في عام 1885 وصل مونش إلى باريس، ولم يكن مجهولاً لدى عشاق الفن والقراء، فبعد ان شاهد الناقد الفرنسي تادييه ناتاسون ـ صديق الفنان بيير بونار ـ أعمال مونش في أوسلو، كتب في مجلة «ريفيو بلانش» مقالاً عن خصوصية الابداع الفني عند مونش، كما نشرت هذه المجلة بعد ذلك صورة عن لوحته المشهورة «الصرخة» وبعد عامين عاد مونش إلى باريس وانضم إلى مجموعة الرمزيين الفرنسيين الذين يحيطون بالشاعر مالارميه، وساهم في تلك الفترة في تقديم أعمال طباعية، منها برنامج لمسرحية ابسن «بيرجنت» التي عرضت في باريس، وغلاف للمجموعة الشعرية المشهورة «أزهار الشر» والتقى في تلك الفترة أيضاً الكاتب المسرحي السويدي المعروف أوجست سترينزبرج في فندق حدائق لوكسمبورج، كان سترينزبرج قد انتهى من كتابة مذكراته، وبدأ يكتب الثلاثية المسرحية «الطريق إلى دمشق» وكالعادة كان سترينزبرج شكوكاً عصابياً يجادل في مخاطر الكيمياء ويبحث عن الذهب فواجه مونش بفظاظة، حينما وجه إليه كلماته الحادة: «أنت أيضاً تقف مع أعدائي، مع الشيطان بول، والآخرين الذين يضايقونني عن بعد بدسائسهم الشريرة، ولكنني سأعرف كيف الدفاع عن نفسي».

ومع ذلك حاول مونش ان يلتقيه مرة أخرى، ليرسمه، كان سترينزبرج قبل ذلك قد كتب مقالاً في مجلة ريفيوبلانش عن أعمال مونش، عندما عرضت في معرض «بنج» في باريس، وحينما رسم مونش صورة نصفية لسترينزبرج وضع لها اطراً من خطوط متعرجة، تمتد من شعر امرأة عارية في أحد جوانب الاطار، مما أغضب سترينزبرج وقال: «أنت تعرف انني أكره المرأة وهذا هو الدافع الحقيقي الذي جعلك ترسم صورة امرأة في صورتي الشخصية».

في باريس تأثر بأسلوب مانيه وبيسارو في الرسم، بل انه رسم بأسلوبهما قبل ان يتأثر بأسلوب فان جوخ وألوان جوجان، وقبل ان يكون له أسلوبه وألوانه الخاصة، كتب في يومياته في سان كلود في باريس يقول: «لن أرسم مزيداً من الممرات، ولا أناساً يقرأون أو نساء عابسات، بل سأرسم أناساً أكثر حيوية، يتنفسون، يشعرون، يتألمون، يعشقون».

وقبل ان تتبلور نظريات التحليل النفسي عند فرويد وكارل يونج، كان مونش يصور في لوحاته الصراعات الداخلية في أعماق الناس، ويتناول الموضوعات التي يهتم بها التحليل النفسي، كالحلم والغيرة والاحباط والخوف والوهم والكآبة ومشاعر الخطيئة والعقاب، وبدا واضحاً اهتمام مونش بالدراسات النفسية لكارل يونج أكثر من اهتمامه بفرويد.

اتسعت نشاطات مونش، فأقام معارض فنية في كثير من العواصم الغربية، منها أحد عشر معرضاً في برلين وثمانية معارض في أوسلو وستة في استوكهولم وأربعة في جوتنبرج وثلاثة في كوبنهاجن واثنان في باريس، كما ساهم في معارض مشتركة مع بعض الفنانين الاسكندنافيين في الولايات المتحدة، وفي نيويورك وبوسطن وشيكاغو ومعارض أخرى في أوروبا الشرقية في موسكو وبراغ ووارسو وفي الشرق الأقصى، في الصين واليابان.

في عام 1908 اشترى متحف أوسلو خمس لوحات من أعمال مونش هي: «اليوم التالي، البلوغ، رماد، فتاتان على الشرفة، الرجل الفرنسي».

لكن مونش لم يجد في بلده النرويج اهتماماً يرضي طموحه إلا بعد ان أصبح معروفاً في كل العواصم الأوروبية، وهو في الخمسين من عمره.

ولم يكن بين الفنانين في تلك الفترة من كان يسافر ويعمل ويعرض أعماله بنشاط أكثر من مونش، فقد بلغت المعارض الفردية والمشتركة التي ساهم فيها أو اقامها في عشر سنوات، مئة وستة معارض.

ومع ان رحلته الأولى إلى برلين وهو في الثلاثين من عمره، كانت مخيبة للآمال فإنه حمل معه خمساً وخمسين لوحة عرضت هناك، وأثارت جدلاً بين نقاد الفن، إلا ان مونش استطاع ان يتجاوز النقد الجارح ويؤكد موهبته، وقد كانت الحركة الفنية في برلين مزدهرة بما يكفي لاثارة اهتمام الفنانين المهاجرين من بقية البلدان الاسكندنافية.

كانت لوحاته، التي رسمها في برلين تشير الى تأثره المؤقت ببعض الفنانين الاوروبيين كما كانت تحمل ملامح القلق والخيبة كما هو واضح في عناوينها: (يأس، قرب سرير الموت، الفتاة والموت، ليلة عاصفة، الصوت، الغضب، رماد، صراط الموات، الغيرة)، كانت لوحاته الاخرى، تفيض بالمشاعر الحالمة، بتأثير من الاتجاهات الرومانسية في الفن في تلك الفترة، كما هو واضح في العناوين التالية: (شاطيء الاسرار، امسية، ضوء القمر، ليلة مقمرة، شروق الشمس في اسفارد ستراند، نجمة المساء).

عرض مونش في نهاية اقامته في برلين مجموعة من اللوحات المسلسلة بعنوان «حياة الانسان» طبعت بعد عرضها في كتاب بعنوان «اعمال ادوار مونش».

شارك في كتابة المادة النقدية لها مجموعة من اصدقائه من الفنانين والكتاب المهاجرين من بولونيا والبلدان الاسكندنافية.

تردد في عناوين لوحات مونش اسماء مكررة، رسمها اكثر من مرة، منها (الفتى المريض، العذراء، الصرخة، صورة شخصية).

في «الفتى المريض» يحاصر الالم نضارة الحياة في بدايتها ويهددها بشبح الموت، وفي مساحة الالم، التي يعبر عنها الشحوب تنتشر بقعة من الدم الاحمر بين الخطوط السوداء، وفي لوحته «تحت النير» يمر الرجل عبر طريق ينتهي بنير ضيق ذي اسلاك شائكة، قبل ان يصل الى المرأة العارية اللعوب، هذا هو حال الرجل، في لوحات مونش، اما المرأة فإنها ليست في حال افضل، انها تعاني من الحرمان والكبت والخوف والغيرة وكلها تصب في نهر الألم.

ان لوحة (الصرخة) هي اكثر لوحاته التعبيرية قوة، في خطوطها وايحاءاتها كان قد رسمها عام 1893 بالألوان الزيتية ثم اعاد رسمها مرة اخرى بعد عامين بطريقة الحفر كتب مونش في مذكراته عن هذه اللوحة يقول: «كنت اتمشى ذات امسية في ممر ضيق وكانت المدينة في جهة بيني وبينها خليج صغير فشعرت بالاعياء والمرض، فوقعت ونظرت عبر الخليج حيث كانت الشمس تغيب والغيوم تتلون بالاحمر فأحسست بصرخة الطبيعة وبدا لي انني سمعت هذه الصرخة ثم رسمت تلك الصورة رسمت الغيوم بلون الدم كما هو «اللون الصارخ».

كان مونش يرسم لوحة جديدة عن كل لوحة يبيعها من لوحاته القريبة الى نفسها.

وكانت لوحاته في البداية صغيرة الحجم لا تشير الى انتمائه الى اية مدرسة فنية غير انها كانت تميل الى الالوان المعتمة وفي لوحاته الملونة تتوازن العتمة مع الضوء تتوازن الالوان الباردة مع الالوان الساخنة، اما في لوحاته بالاسود والابيض فإن الاسود يتوازن مع الابيض، اما الشمس التي يرسمها مونش في لوحاته فإنها «الشمس الشمالية» النادرة وتشرق على الشاطيء في الثلث الاعلى من اللوحة فتذكرنا بالشمس التي كان يرسمها فنانو عصر النهضة ولكن مونش يرسم في قلب الشمس الكبيرة شمسا صغيرة ترقد كجنين في وسط الضوء.

كان تأثير مونش واضحا في الفنانين الانطباعيين في اوروبا وفي ألمانيا وسويسرا وتشيكيا بشكل خاص ليس في اسلوبه في الرسم وانما في الموضوعات التي يتناولها فنه ايضا ويقال ان تأثير مونش في الفن الجديد في المانيا يشبه تأثير سيزان في الفن الجديد في فرنسا.

في عام 1938 اقام مونش معرضا لاعماله الفنية براغ، فكتب رائد الفن التشيكي اميل فيلا يقول: «كما جاء دوناتللو الى بادوا ورامبرانت الى امستردام، وكما ظهر مايكل انجلو في فلورنسا او كارفاجيو في روما، كذلك جاء مونش الى معاصريه مثالا للانسان، الذي يقف حرا جريئا في مجتمعه».

وكان تأثير مونش واضحا في صديقه كوكوشكا في البداية، لكن كوكوشكا، الذي اعترف في مذكراته بهذا التأثير، حاول ونجح في تطوير اسلوبه الخاص، كما كان لمونش تأثير في جماعة الفنانين المنشقين، التي كان يقودها في فيينا الفنان غوستاف كيلمت «1862 ـ 1918».

ان تأثير الانطباعية الفرنسية، كان واضحا في فن مونش في البداية، من خلال استخدام الالوان الواضحة والصريحة، مع موجة من الضوء الساطع، وذلك قبل ان يشكل مونش في المانيا نقطة انعطاف بين الانطباعية والتعبيرية في الفن، في المانيا والنمسا، من خلال تأثيره في جماعة «الفن الجديد» او «المنشقين»، الذين غرقوا في نوع من الزخرفة الجديدة في بداياتهم، انه يقف مع التجريب والتجديد ضد الجمود في الفن، ومن المؤسف انه لم يكن كذلك في حياته الشخصية.


عن البيان الثقافي - دولة الامارات

4/5/2004