|
||||||||||||||||||
|
||||||||||||||||||
|
||||||||||||||||||
|
||||||||||||||||||
|
||||||||||||||||||
ولد "حامد ندا" في 19 نوفمبر 1924م، بحي الخليفة في القاهرة القديمة، وعاش طفولته بالحي الشعبي العتيق في شبه متحف أنثروبولجي مفتوح، حيث كان محاطا بمظاهر متناقضة من الجوع إلى التخمة، ومن المدنية إلى الخرافة، ومن أمجاد التاريخ إلى حضيض التخلف. هذا العالم الشعبي بكل تناقضاته كان الينبوع الأول والدائم لفن "حامد ندا"، فكانت لوحاته منذ منتصف الأربعينيات انعكاسا لرؤاه قبل أن يكتشف عالم السريالية الرحب، وعندما سمع عنها وشاهد أعمال روادها، وقرأ "لفرويد"، "ويونج"، و"أدلر" وعرف ما يسمى بمخزون اللاوعي والتحليل النفسي كان يشعر أنه يكمل ما قرأه في كتاب طفولته، وما عبر عنه بالفعل في لوحاته التي يقول عنها الناقد "عز الدين نجيب": "اتسمت منذ البداية بنوع من السكونية الجامدة، وبدرجة كبيرة من الخشونة والغلظة". وكانت السمة العامة لهذه الرسوم هي البدائية الساذجة التي تناسب مضامينها ورموزها الخرافية، وهي سذاجة فطرية لا أثر فيها للصنعة أو الحرفية، ولوحظ على أعمال هذه المرحلة تشابه كبير في الموضوع والأسلوب في أعمال "عبدالهادي الجزار" في المرحلة نفسها، وإن كان "الجزار" أكثر امتلاكاً للحرفة وللقواعد والأكاديمية فإن "حامد ندا" كان الأكثر جرأة على تحطيم القواعد، وعلى ارتياد منطقة المعتقدات الشعبية بأبعادها الخرافية. ومع بداية الخمسينيات اكتشف "حامد ندا" القيم الجمالية للتصوير المصري القديم، بنزوعها إلى التسطيح والحركة الإيقاعية المنتظمة، وما تحدثه من علاقات بين عناصر التكوين، فشغف بهذا النسق الجمالي، ووجد فيه انسجاما مع نسق الرسوم الشعبية المزينة للجدران والذي تأثر به من قبل، كما وجد فيه إمكانا للتعايش مع الأنماط الطوطمية الطقوسية من فنون الكهف والفنون الزنجية البدائية وما يحيطها من ملامس خشنة وألوان متآكلة. كانت تلك المنظومة الجمالية التراثية هي خلفية التحول البنائي لفن "حامد ندا" في الخمسينيات فتحررت شخوصه من سكونيتها، ومن أجرامها الثقيلة، ودبت فيهم الحركة وبهت الحس المأساوي ليحل محله حس غنائي إيقاعي راقص. ويؤكد النقاد أن "حامد ندا" امتلك خلال فترة الستينيات أهم خصائصه التشكيلية والتعبيرية، واتسع عالمه الفني ليضم شعارات المرحلة الناصرية عن العدالة الاجتماعية والتحرر الوطني، وفي هذه المرحلة ظهر عنصر السمكة كرمز للخير والخصب، كما مال إلى تحليل الأجسام البشرية تحليلا فنيا يستوحي فيه أسلوب النحت الزنجي والأقنعة الإفريقية بما فيهما من مبالغات، ومع نهاية الستينيات تصفو لوحاته من خشونتها الضارية، وشفت ألوانها تحت فيض من النور يتسرب إليها من مصدر مجهول، وأصبحت أجسام الرجال قزمية طوطمية بينما اكتسبت أجسام النساء رقة ورشاقة... وامتلأت سطوح اللوحات بعناصر زخرفية مستمدة من التراث الشعبي أو الفرعوني. إذا كنا قد تحدثنا فيما سبق عن مراحل الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، فإن الدافع لم يكن الحديث عن كل عقد باعتباره مرحلة لكن تصادف أنه بدأ كل مرحلة من مراحله مع بداية كل عقد، ومرحلته الأخيرة امتدت لتشمل عقدي السبعينيات والثمانينيات ولم تنته إلا بموته... وبالطبع فإنه يصعب تقسيم أعمال أي فنان إلى مراحل زمنية مستقلة، فإن رحلة الفنان بناء عضوي متداخل ومتماسك، وهذا ينطبق على "حامد ندا" تحديدا أكثر من أي فنان آخر فهو منذ لوحته الأولى (1946) حتى لوحته الأخيرة (1990) يقوم بتنويعات لا نهائية على لحن أساسي واحد، كما أنه كثيرا ما يعود في مراحل متأخرة إلى رؤى وعناصر سبق أن عالجها في مراحله الأولى. لكن منذ بداية السبعينيات فقد "حامد ندا" سمعه، وأصبحت السماعة هي الأساس في علاقته بالعالم أو واسطة هذه العلاقة، فكان ينزع السماعة قبل أن يمسك بالفرشاة لينعزل عن العالم ويتوحد مع اللوحة، ولعل تزايد هذا الصفاء النوراني الشفيف في لوحاته يرجع إلى هذا السبب، إذ إن انعزال الفنان عن العالم الخارجي جعله أكثر قربا من عالم الخيال فأصبحت لوحاته تنهل من عوالم الفانتازيا أكثر من ذي قبل. وفي السبعينيات أدخل "حامد ندا" إلى لوحاته عناصر جديدة مثل الحصان، والحروف العربية، وقطع الملابس الداخلية، واقترب من عالم السيرك والأكروبات وارتفع حس الملهاة في رؤيته للأشياء، ويرجع "عز الدين نجيب" ذلك إلى إصابة "حامد ندا" بالصمم، إذ يرى أن هناك علاقة سببية بين ازدياد ضعف سمع "حامد ندا" وازدياد رفضه للعالم الخارجي والتهكم على هذا العالم في لوحات يرتفع فيها حس الملهاة. وفي أبريل 1990م تعثر الفنان في مرسمه وارتطم رأسه بالحائط ليسقط مغشيا عليه، وبعد ساعات تنبه له أهله، ونقلوه إلى المستشفى مصابا بشلل نصفي ظل يعاني منه حتى فاضت روحه إلى بارئها في فجر يوم 27 مايو 1990م، لينقطع بموته وتر طروب لكن النغم لم يزل باقيا في إبداع الفنان. |
||||||||||||||||||
|
||||||||||||||||||
القاهرة: الوطن |
|
28/8/2004 |
|